إشكالية السياسة والديمقراطية في الفكر الإسلامي..تمثل السياسة بمعنى حكم الجماعة الإنسانية وإدارة شؤونها، واتخاذ القرارات العامة المتعلقة بحماية وجودها وإدامة قيمها وضمان مصالحها وتحقيق أهدافها واستثمار قدراتها، وتنظيم علاقاتها وتفاعلاتها وتوجيهها في الداخل والخارج، والسلطة بمعنى قدرة إرادة ما على التحكم في إرادة أو إرادات أخرى وتوجيهها سواء اقترنت هذه القدرة بالشرعية والقبول أو افتقرت إليهما، ظاهرتين متكاملتين وإشكاليتين متلازمتين كانتا وستبقيان دائما في صلب كل وجود وتفكير إنساني. والعلة في ذلك هي أن كل وجود إنساني هو وجود اجتماعي وكل وجود اجتماعي هو وجود سياسي وكل وجود سياسي هو وجود سلطوي ينقسم فيه المجتمع إلى حكام ومحكومين حتى عندما يحكم الناس أنفسهم بشكل مباشر، لأنهم سيكونون عندها حكاما بقدر ما يمارسون سلطة الحكم ومسؤولياته، مثلما سيكونون محكومين بقدر ما يخضعون لسلطة الحكم التي يمارسونها ويطيعون قراراتها. سواءاً نصت المصادر الإسلامية الدينية (القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة) على ذلك التلازم الأكيد والدائم بين المجتمع والسياسة والسلطة أم لم تنص عليه، فإن المجتمعات الإسلامية لا يمكن أن تُستثنى منه بأي حال من الأحوال، يؤكد ذلك ويثبته وجود السلطة السياسية فيها بأشكال وصور متعددة ومتنوعة، وانصراف جزء كبير من نتاجات المفكرين المسلمين قديما وحديثا إلى دراسة أحوال هذه المجتمعات من وجهة نظر العلاقة بين الظاهرتين الاجتماعية والسياسية وإشكالاتهما. وإذ استندت تلك النتاجات الفكرية السياسية الاجتهادية الإنسانية في مقدماتها ونتائجها إلى العقيدة الإسلامية وتجربتها التاريخية الاجتماعية السياسية، فقد أوحى ذلك لمنتجيها أو من وافقهم على آرائهم بتلبس السياسة وتطبيقاتها في المجتمعات الإسلامية لبوسا إلهيا غيبيا مطلقا. ساعدت على ذلك وشجعت عليه الظروف التاريخية الاجتماعية التي جعلت الإسلام في تجربته المعاشة أكثر الأديان التوحيدية تجسيدا لواقعة الارتباط بين الدين والسياسة بعد أن قامت دولته الأولى في حياة نبيه (صلعم)، ثم استمرت بعد وفاته ولما يقرب من ثلاثة عشر قرنا من الزمان. وإذا ما كانت تلك الدولة قد نشأت في بداياتها النبوية لأسباب دينية وقامت على أسس دينية، بقدر ما هي أيضا أسباب وأسس اجتماعية بما جعل منها في طوريها النبوي والراشدي دولة تخدم الدين وتحقق أهدافه وتدافع عنه وتعمل على نشره. فقد تغيّرت طبيعة تلك الدولة في المراحل اللاحقة بتأثير مسارات التطور الاجتماعي التاريخي لتصبح دولة تستغل الدين لخدمة مصالحها وترسيخ سلطانها وتوسيع رقعتها وزيادة فيئها وغنائمها وتستعمله لإضفاء الشرعية الدينية المقدسة على حكامها وحكوماتها وسياساتها. وبذلك كانت الدولة الإسلامية في حقبتها التأسيسية الأولى (النبوية والراشدية) تجسيدا لهيمنة الديني على السياسي أو الإلهي على البشري وغلبته عليه وتطويعه لإرادته وتوظيفه لخدمته، بقدر ما كانت في حقبتها التوسعية الثانية، وبكل عصورها ونماذجها، تجسيدا لهيمنة السياسي على الديني أو البشري على الإلهي وغلبته عليه وتطويعه لإرادته وتوظيفه لخدمته. وليس هذا بالأمر الجديد على الممارسة البشرية ولا هو بالخاص بتجربة الدولة في المجتمعات الإسلامية أو المقتصر عليها، فذلك ما آلت إليه الأمور في كل التجارب الإنسانية التاريخية التي انتهت كل أوجهها وجوانبها إلى غلبة السياسي على الديني أو البشري على الإلهي في كل واقعة تحقق فيها فعل الاتصال والارتباط بين الأرض والسماء، الدين والسياسة. فمهما كان الدين مهيمنا على السياسة في بداية كل تجربة من تجارب التاريخ الإنساني ومسيطرا عليها بقيمه الإلهية ومتحكما فيها بأخلاقياته المبدئية وأهدافه المثالية، كانت الأمور تنتهي بينهما إلى عكس ما ابتدأت تماما لتتقدم السياسة على الدين فتسيطر عليه بقيمها البشرية وتتحكم فيه بأخلاقياتها المصلحية وأهدافها المادية. يؤكد هذا الزعم ويدعمه التمييز الذي يقيمه الإمام ابن تيمية بين الخلافة التي يراها خلافة للنبوة مستوفية للشروط الشرعية ومدتها ثلاثون عاما بعد وفاة الرسول(صلعم) بما يقصرها عنده على عصر الخلفاء الراشدين فحسب، والملك الذي يراه شاملا لكل من تولى أمر المسلمين من الحكام بعد ذلك العصر لأنهم مفتقرون في رأيه إلى الشروط الشرعية لخلافة النبوة التي لم يعد لها في عصورهم من وجود إلا بالاسم فقط، أما واقع الحال فملك أساسه الغلبة يعض عليه أهله بالنواجذ وهذا في رأيه حال من ولي الأمر من الأمويين والعباسيين والفاطميين(1).
ويرتبط ظهور إشكالية السياسة في الإسلام في العصر الحديث بإلغاء الكماليين في تركيا للخلافة والجدل الذي نشأ بعد ذلك بسببه حول علاقة الإسلام بالسياسة، الدين بالدولة، واختلاف الآراء في هذا الشأن. فقد ذهب بعض المفكرين إلى عدم تضمن الشريعة الإسلامية لأية نظرية واضحة ومحددة ومتكاملة العناصر والأركان بشأن طبيعة النظام السياسي الإسلامي ولا خصائصه ولا أسلوب الحكم فيه، وأن المصادر الإسلامية الدينية (القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة) لم تتناول بالتحديد والتفصيل والتنظيم لا موضوع السلطة السياسية ولا شكل وأسلوب ممارستها في المجتمع الإسلامي. فضلا عن أن هذه المصادر لا تتضمن في اعتقادهم لا آية قرآنية ولا سنة نبوية تتفق كل فرق المسلمين ومذاهبهم على الجزم بأن أيا منهما، أو كليهما، يرتب ترتيبا واضحا وحاسما ومحددا لنظام الحكم في الإسلام أو يحدد طبيعة الحكام وصفاتهم وواجباتهم وحقوقهم وسبل اختيارهم ومحاسبتهم وتغييرهم من منظور إسلامي(2). ولكن مفكرين آخرين ذهبوا إلى خلاف ذلك تماما عندما أكدوا أن الإسلام دين ودولة، وأن ما هو ديني فيه لا ينفصل عما هو اجتماعي أو سياسي، ومن ثم فإن الصلة في الإسلام في رأيهم محكمة بين الدين والسياسة وأن ذلك من أبرز خصائصه كعقيدة دينية وتجربة تاريخية عملية(3). وفي ضوء ما ذهب إليه أصحاب الرأي الأخير، ومن دون نسيان السوابق السياسية النظرية المتعددة والمختلفة التي أرسى أسسها مفكرون إسلاميون ينتمون إلى المدارس الفقهية والكلامية والفلسفية والتاريخية الاجتماعية الإسلامية المتنوعة(4)، فقد تبلور منذ بداية عصر النهضة الإسلامية الحديثة في منتصف القرن الميلادي الثامن عشر خطاب إسلامي سياسي تبنى فكرة أن الإسلام دين ودولة وسعى إلى تطبيقها. وتمتع هذا الخطاب بقوة دفع حركي عالية وتأثير عميق في قطاعات واسعة من كل الأوساط الإسلامية بحكم جاذبيته الطبيعية الأصلية الناجمة عن ملامسته لأعمق مكامن الحس الديني في النفس البشرية من جهة، ولما ينطوي عليه من جهة ثانية من وعود بتكرار أنموذج الدولة الدينية العادلة المستندة إلى الشريعة الإلهية والعاملة بها في عصري النبوة والخلافة الراشدية بكل ما في ذلك الأنموذج من عناصر ايجابية خيّرة، وكونه من جهة ثالثة يبشر بأنموذج لم يتم تطبيقه فعليا في العصر الحديث ولا عانى من سلبيات الفشل في تحقيق الأهداف والعجز عن الوفاء بالعهود والنكث بالوعود التي عانت وما زالت تعاني منها كل نماذج الخطابات السياسية الدنيوية الأخرى. وفي إطار الأنموذج المثالي للدولة الدينية الإسلامية ومبادئها وسياساتها، يرد مفهوم (الشورى) ويُستعمل في بعض أنواع الخطاب الإسلامي السياسي، إن لم يكن في كل أنواعه، كمرادف إسلامي لمفهوم الديمقراطية الغربي الذي يشير إلى نظام الحكم القائم على تولي المجتمع لمهمات الحكم ومسؤولياته بشكل مباشر، وفقا للتطبيق الذي كان سائدا في المجتمع الإغريقي في العصور القديمة، أو بشكل غير مباشر وفقا للتطبيق السائد الآن في المجتمعات الديمقراطية الليبرالية الغربية. ولكن المقارنة بين الشورى والديمقراطية تُظهر أن الأولى هي الأقل وضوحا وتحديدا والأكثر إثارة للاختلاف بشأن كل مفرداتها وتطبيقاتها على المستويين المفاهيمي والتطبيقي. حيث ينصرف مصطلح الشورى في جذره اللغوي إلى معنى البحث عن الأفكار والآراء واستخلاصها من خلال الحوار والمناقشة مع الآخرين، وهو يعني أيضا الأمر الذي يجري التشاور بشأنه، أما الجذر الاصطلاحي السياسي للشورى فينصرف إلى معنى استطلاع رأي الأمة في المسائل المتعلقة بشؤونها العامة لمعرفة موضع إجماعها بشأن تلك الأمور مباشرة أو من خلال من ينوب عنها ويتحدث باسمها، فالعقول إذا تشاورت اتضحت أمامها السبل وبانت الخيارات لتنتهي بها هذه الشورى إلى الاتفاق على الخيار الأرجح والأفضل لتوافقه من جهة مع أحكام الشريعة أو على الأقل عدم تعارضه معها، وتلبيته من جهة ثانية لاحتياجات الإنسان وتأمينه لمصالحه وتحقيقه لأهدافه.
إلا أن مفاهيم الخطاب الإسلامي السياسي وتطبيقاته مستمدة أصلا وبالأساس من المرجعين الدينيين القدسيين (القرآن والسُنة) قبل أن تكون مستمدة من الأصول اللغوية والاصطلاحية. وقد وردت كلمة الشورى في القرآن الكريم في موضعين فقط فجاءت في الآية 38 من سورة الشورى في صيغة الوصف الامتداحي لمجتمع المؤمنين الذي يقول عنه الله تبارك وتعالى (والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم). وجاءت في الآية 159 من سورة آل عمران في صيغة الأمر الموجه إلى الرسول (صلعم) حيث يخاطبه تبارك وتعالى فيقول (فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله)، وتحتمل الأوامر الإلهية الموجهة إلى الرسول (صلعم) الاختصاص به من دون غيره مثلما تحتمل أيضا شمول العموم بها من بعده. أما في السُنة النبوية المشرفة فهناك الكثير من الأدلة والأمثلة القولية والفعلية والتقريرية على استشارة الرسول (صلعم) للصحابة في الشؤون الدنيوية والدينية التي لم يأته بشأنها وحي إلهي كطلبه المشورة بشأن موضع نزول جيش المسلمين في غزوة بدر وأسرى المشركين فيها وبشأن حفر الخندق في غزوة الخندق وفسخ الاتفاق مع قادة غطفان فيها. ومن ثم فإن إدارة الرسول (صلعم) للمجتمع الإسلامي الوليد ودولته الناشئة قد قامت في ركن أساسي منها على الشورى ليس في شؤون الدنيا فحسب بل وفي شؤون الدين أيضا مما لم ينزل به وحي الله، مع احتفاظه (صلعم) لنفسه في النهاية بحق طلب المشورة أو عدم طلبها، وحق أخذ أو ترك كل أو بعض ما انتهت إليه المشورة بعد طلبها. وإذ لا تعتمد نتاجات المفكرين المسلمين، بما في ذلك الجزء السياسي منها، على المصادر الإسلامية الدينية الإلهية الأساسية فقط، بل وتعتمد أيضا على المصادر البشرية الفقهية الاجتهادية الفرعية، فإنها تأخذ عن هذه المصادر الفرعية ما يتعلق بتطبيقات الشورى التي كان يأخذ بها أعلام الصحابة والتابعين في كثير مما يهم المسلمين من شؤون دينهم ودنياهم مما ليس لديهم به أو بتفسيره علم من الوحي أو السُنة. ويبدو أن الخلفاء الراشدين وفي إطار ممارستهم للشورى لم يجدوا فيما لهم به علم من الأحكام الدينية ما يمنعهم من الاجتهاد لابتكار أنظمة وسياسات وتطبيقات جديدة لم يجدوا بشأنها وحيا ولا سُنة ولا كان للمجتمع الإسلامي ودولته سابق علم بها ولا تطبيق لها، مثلما أنهم لم يجدوا أيضا فيما لهم به علم من الأحكام الدينية ما يمنعهم من اقتباس بعض من تلك الأنظمة والسياسات والتطبيقات عن الأمم الأخرى غير المسلمة. فأخذوا بنظام الدواوين ووضعوا أنظمة للجيش والمالية والوزارة وقسموا البلاد إلى ولايات وأعمال مما يمكن أن يُعد من اجتهادات الخلق لتدبير شؤونهم وتسيير أحوالهم، وهو أمر عايشه كثير من الصحابة والتابعين والفقهاء وتعاطوا معه من دون أن يرى فيه أحدهم أمرا يخالف الشرع الإلهي أو يتعارض معه، ولم نسمع أن أحدا منهم وصف شيئا من ذلك بأنه بدعة أو رفض الأخذ به بحجة عدم ورود نص صريح بشأنه في الوحي أو السُنة.
ويتجاوز اختلاف المسلمين أفرادا ومذاهب ومدارس فكرية بشأن الشورى و حدود دلالاتها المفاهيمية ليمتد فيشمل أيضا اختلافهم على أسلوب ممارستها، ووسائل تطبيقها، وصفة وعدد المؤهلين لتقديمها أو المشاركة فيها، إذ لم تتضمن آيتا الشورى في القرآن الكريم أية تفاصيل تتعلق بذلك(5). وإذا ما كانت إحدى القواعد الفقهية تفيد بأنه (لا اجتهاد في موضع النص)، فإن هذه القاعدة ذاتها تُنتج أو تولّد قاعدة أخرى ضمنية معاكسة لها تقول بأنه (لا بد من الاجتهاد فيما ليس فيه نص). فغياب النص الديني في شأن ما يستدعي اجتهاد الأمة أو من يلي أمرها في هذا الشأن، بقدر ما أن تغير الأزمان والأحوال هو الآخر يستدعي تغيير مضمون هذا الاجتهاد لأنه في الأصل نتاج بشري وليس نصا دينيا مقدسا. فإذا لم يكن للخلق أن يغيروا النصوص الدينية الإلهية (القرآن والسُنة)، فإن لهم بالتأكيد أن يغيروا اجتهاداتهم الفقهية البشرية وإلا فإن القول بعدم جواز تغيير هذه الاجتهادات وثباتها الدائم والمطلق سيجعلها مماثلة للنص الديني في صلاحيته لكل زمان ومكان بما يؤسس لجعلها مماثلة لهذا النص في قدسيته وأزليته أيضا. ويتسع الخلاف الإسلامي حول الشورى ويمتد ليشمل أيضا مسألتين أساسيتين أخريين فيها هما:
ـ وجوب أو عدم وجوب طلب الشورى.
ـ إلزامية أو عدم إلزامية الأخذ بالرأي الناتج عن الشورى بعد طلبها.
أما بالنسبة لمسألة طلب الشورى فقد انقسمت آراء المسلمين بشأنها بين الندب والوجوب، ومن قال بالوجوب استند في ذلك إلى مصدرين أساسيين ومصدر ثالث فرعي:
ـ المصدر الأساسي الأول ؛ للقول بوجوب طلب الشورى، هو نصوص الآيتين الكريمتين (وشاورهم في الأمر) و (أمرهم شورى بينهم) ولهذا المصدر بُعدان مباشر وغير مباشر. فالبعد المباشر يرتبط بتفسير الآية الكريمة (وشاورهم في الأمر) ولهذا التفسير وجهان، الوجه الأول هو القول بأن الرسول (صلعم) كان بفضل الوحي مستغنيا عن طلب المشورة مما يجعل هذه الآية موجهة أساسا لتعليم الناس وتوجيههم للأخذ بالشورى في إدارة شؤونهم وتدبير أحوالهم مما يعني شمولها ليس فقط لكل من ولي أمر المسلمين بعد الرسول (صلعم) بل وشمولها لكل المسلمين أيضا. وتؤسس للوجه الثاني لتفسير هذه الآية القاعدة الفقهية القائلة بأن (ما أريد به الخصوص أريد به العموم)، أي أن ما أُريد به الرسول في هذه الآية من الأمر الإلهي بمشاورة الخلق يراد به أيضا عموم المسلمين مما يوجب عليهم الأخذ بالشورى. أما البعد غير المباشر للمصدر الأساسي الأول للقول بوجوب الشورى فيرتبط بتفسير الآية الكريمة (وأمرهم شورى بينهم) التي تنطوي على وجوب ضمني غير مباشر لأخذ المسلمين في حياتهم بالشورى بعد أن جعلها الله سبحانه وتعالى وصفا تمييزيا امتداحيا للمؤمنين بدلالة أخذهم بها وتطبيقهم لها، ولا تمييز ولا امتداح من دون ثبات ودوام صفة التمييز الامتداحي بالنسبة للمُميز بدلالة تلك الصفة والمُمتدح بسببها.
ـ المصدر الأساسي الثاني ؛ للقول بوجوب طلب الشورى، هو سُنة الرسول (صلعم) في أخذ الشورى في كثير من الشؤون الدينية والدنيوية مما لا يخفى أمره على المتأمل في السُنة النبوية المشرفة.
ـ المصدر الفرعي ؛ للقول بوجوب طلب الشورى، هو ما ينصرف إلى ما جرى عليه الصحابة والتابعون من الأخذ بحكم الله تعالى وسُنة الرسول (صلعم) في طلب الشورى في شؤون حياتهم العامة والخاصة.
إلا أن كل ما جاء في القرآن الكريم والسُنة النبوية وأعمال الصحابة والتابعين مما يؤسس صراحة أو ضمنا للقول بوجوب طلب الشورى لم ينسحب بالقدر نفسه على مسألة إلزامية حكم الشورى لمن طلبها، فإذا كان هناك القليل من الأدلة على وجوب طلب الشورى فالأدلة على إلزامية أحكام الشورى ونتائجها بعد طلبها أقل من ذلك بكثير. وبين الندب والوجوب والإلزام وعدم الإلزام انقسمت آراء المسلمين وما زالت منقسمة حول الشورى مما يعني أن كل عناصرها المفاهيمية والتطبيقية لا تزال وحتى يومنا هذا من المسائل الخلافية التي لا يوجد بشأنها لا رأي جازم قاطع ولا جواب نهائي حاسم. إلا أن اختلاف آراء المسلمين حول كل ما يتعلق بالشورى من تفاصيل، وتباين أدلتهم التي يؤسسون عليها تلك الآراء ليس بالأمر السلبي كليا، فهو يعني أيضا وفي النهاية وجود فسحة من الحرية أمامهم تسمح لهم باختيار مفهومهم أو مفاهيمهم الخاصة للشورى مثلما تسمح لهم أيضا باختيار شكل تطبيقاتهم لها، وأن بمقدورهم إلزام ولاة أمرهم بالأخذ بالشورى وتطبيق أحكامها أو أن لهم ألا يفعلوا ذلك. فإذا أخذنا بالاعتبار أن عموم المجتمعات الإنسانية ومن بينها المجتمعات الإسلامية باتت تسعى جاهدة لأن يكون لها دور حقيقي وفاعل في صنع السياسة في مجتمعاتها وتنفيذها والرقابة عليها، سواء أكانت التسمية المعتمدة لهذا الدور هي الشورى أو الديمقراطية أو المشاركة السياسية الشعبية، أدركنا مدى الحاجة لتوسيع مفهوم الشورى وتطبيقاته في الإسلام وضرورة دفعها نـحو الوجوب من جهة وإلزامية أحكامها لمن طلبها من جهة ثانية. ولكن آراء ممثلي الأشكال المتعددة والصيغ المختلفة للخطاب الإسلامي السياسي تراوح في مواقفها من الشورى والديمقراطية بين أقصى اليمين وأقصى اليسار، إذ ذهب بعض هؤلاء إلى القول بأن ما تحتاج إليه المجتمعات الإسلامية هو الشورى وليس الديمقراطية(6)، مؤسسين ذلك على قولهم بالقطيعة الكاملة بين مفهوم الشورى وتطبيقها الإسلاميين ومفهوم الديمقراطية وتطبيقها الغربيين ليرفضوا الديمقراطية على هذا الأساس جملة وتفصيلا بل وحتى تسمية لأنها في رأيهم “نظام لم تأت به العقيدة الإسلامية”(7)، ليوجبوا علينا كمسلمين أن نقف من الديمقراطية “موقفنا من كل ما أحدث في الإسلام مما هو ليس منه فنرده ولا نأخذ به ونعده كفرا بواحا”(
. وذهب مفكرون إسلاميون آخرون إلى خلاف ذلك تماما بقولهم بالتوافق بين الإسلام والديمقراطية، حيث يرى أحدهم أن “الإسلام أبو الديمقراطية”(9)، ويقول آخر أن “ما كان عليه الخلفاء الراشدون الأربعة، وهو أشد صور الحكم الإسلامي انطباقا على الشرع، لنراه شعبيا محضا وديمقراطيا بحتا”(10). وبقدر ما غالى أصحاب الرأي الأول في معارضتهم للديمقراطية ورفضهم لها متناسين مرونة الشريعة الإسلامية وقدرتها على الاستجابة للمستجد من الأحوال مما تؤكده كثرة وتنوع الاجتهادات الفقهية في التراث الإسلامي الاجتماعي عامة والسياسي خاصة والتي جاءت بما (لم تأت به العقيدة الإسلامية) فلم يرده من عاصره من الصحابة وأهل السابقة في الإسلام ولا أعلام التابعين ولم يعده أحد منهم (كفرا بواحا) يتوجب رده وعدم الأخذ به. فقد بالغ أصحاب الرأي الثاني في تبنيهم للديمقراطية ومحاولتهم لمطابقتها مع مفهوم الشورى الإسلامي وإدماجها فيه مهملين بذلك خصوصيتها والطبيعة المميزة لها من حيث هي مفهوم عام غير محدد العناصر والأبعاد لكنه في النهاية مفهوم محكوم بسياقه الديني العقائدي العام وخاضع لخصائصه. وبين هذين الموقفين فصلت فجوة حاول مفكرون آخرون ردمها أو على الأقل تجسيرها بقول أحدهم أن للإسلام نظامه الخاص الذي أسماه النظام النوموقراطي (نظام حكم الشرع/ نظام حكم القانون) لأن الحاكم في هذا النظام هو النوموس (الشرع/ القانون) مما يجعل دولة الإسلام في رأيه دولة حكم القانون في الجماعة، ولما كان القانون أو الشرع الحاكم في هذه الجماعة قانونا أو شرعا إلهيا فستكون دولة الإسلام إذا محكومة بالنوموس/ القانون أو الشرع الإلهي(11). وذهب رأي آخر إلى أن بين الإسلام والديمقراطية أوجها للتشابه والاختلاف في آن واحد من دون أن يمنع ذلك من القول إن الإسلام يشتمل على “أهم ما تحتوي عليه الديمقراطية من عناصر وأفضل ما تتميز به من صفات”(12).